مقدمة:تحيل كلمة فن مباشرة إلى الفنون الجميلة (الرسم، الغناء، الرقص، العزف، التمثيل...). كما تستعمل الكلمة كمرادف ل"تقنية" فالفن ينطوي على "تقنيات" أو ممارسات عملية. ولهذا نسمع عبارت من قبل "الجانب الفني"، فنون الطبخ"، فنون الحرب والقتال"... ويرتبط الفن بالجمال، فالإنسان يتميز عن غيره من الكائنات بحسه الفني وذوقه الجمالي. كما أن التاريخ الإنساني هو تاريخ التحف الفنية والجمالية.لقد تعطل التفكير الفلسفي في ماهية الفن بسبب عاملين اثنين ساهما في عدم قيام فلسفة الفن:1-الموقف الأفلاطوني من الفنانين والشعراء.2-الموقف الكانطي بخصوص تفوق الجمال الطبيعي على الجمال الفني.لذلك كان يجب انتظار مجيء هيجل الذي تجاوز الطلاق الأفلاطوني بين الفلسفة والفن إذ أصبح الفن معرفة حقيقية تتضمن رسالة أو فكرة أو مبدءاً و غاية. ·فما هو العمل الفني؟ وما الذي يجعله فنيا؟ ·ما علاقة الفن بالجمال؟ وما أساس الحكم الجمالي؟ ·و هل للفن حقيقته وواقعه الخاص ؟ أم أن العمل الفني محاكاة للأشياء والأحاسيس والمواقف؟ مـاهــيـة الــفــنيعتبر ميشيل هار أن التفكير في العمل الفني في ذاته والاشتغال على هذا الأثر من حيث هو كذلك، لم يبدأ إلا مع هايدغر و ميرلوبونتي الذين أعلنا عن استقلالية الأعمال الفنية وضرورة عدم اختزالها في ما تمنحه من منفعة حسية، أو الاكتفاء بالنظر إلى محتواه الفيزيائي، أو مخزونها الثقافي.إن هذه المحاولة لم تبحث في الفن كموضوع للتفكير الميتافيزيقي المجرد، و لكنها تصورته بالأساس كنموذج للحقيقة الغامضة لوجود الإنسان وعلاقته بالعالم. وهذا ما يعني أن العمل الفني وحدة مستقلة للمعنى وللإحساس.ينطلق هايدغر في تناوله لإشكالية العمل الفني و استبصاره لماهيته من حضور عنصر المادة داخله، فالأثر الفني هو قبل كل شيء مادة، تحمل و تنقل و تباع.يقول هايدغر: "إن الجانب الشيئي لصيق بالأثر الفني حتى إن الأثر الفني يضم فوق جانبه الشيئي جانبا آخر أيضا. هذا الآخر القائم في الأثر هو ما يشكل جانبه الفني... في الأثر يتم تأليف الشيء المصنوع مع آخر..." إذن الأثر الفني شيء مصنوع وإضافة أخرى هي التمثيل أو الرمز. وهذا ما يحددي ماهية العمل الفني.غير أن هايدغر يمنح الشيء تعريفا خاصاً. فما هو الشيء إذن ؟ لم يكتفي هايدغر في تعريفه للشيء بما قدمته المقاربات الميتافيزيقية عندما ألحقت الشيء بالأثر دون أن تعرف ماهية هذا الشيء، ففي كتابه الدروب الموصدة يعتبر هذا الأخير أن معرفة أصل العمل الفني عملية صعبة و جد معقدة . إذ بغض النظر عن مكونات الأثر الفني التي هي أشياء يتساءل هايدغر عن من يسبق الآخر هل الأثر الفني أم الفنان ؟ فـ"من خلال العمل نعرف العامل " يقول هايدغر في أصل العمل الفني، بل إن الأثر الفني وحده من يجعل الفنان فناناً . إلا أن هايدغر سرعان ما ينتهي إلى التأكيد على أنـه إذا كان أصل العمل الفني هو الفنان ، فإن أصل الفنان هو الأثر الفني نفسه. بعد أن يؤكد هايدغر على تعقد الظاهرة الفنية و حضور الجانب الشيئي فيه ؟ يعود هايدغر إلى التعريف بماهية الشيء؟يقول هايدغر " الحجر المرمي على الطريق شيء القدر أو الكأس هي أشياء كذلك ؟ و عندما نضع ماءاً أو حليباً في هذه الآنية، تصبح بدورها أشياء.". من هذا المثال يستنتج أنه بإمكاننا أن ننعت السحب في السماء بالشيء و القمح في الحقل بنفس الاسم، و حتى الأوراق المتساقطة على الأرض أيام الخريف يمكن أن تعتبر أشياء. إن الشيء هو ما يلزم وجوداً ما.لذا نقول إن العمل الفني شيءً لأنه موجود. إن الشيء عند هايدغر هو كل ما يدل على الوجود و الحياة، إن الشيء يمكن أن يكون كل شيء غير العدم والإنسان، و لا يمكن أن نصف إنساناً بالشيء، فنحن غالبا ما نتردد في قول الله شيء مثلما نتردد في وصف الفلاح في حقله، و المعلم في مدرسته بالشيء.إن ما ننعته بالشيء هو كل الأشياء الموجودة في الطبيعة و التي نستعملها في حياتنا اليومية. أو نصادفها كل يوم أمامنا على صفحات الوجود. هل يمكن أن نتفق مع هايدغر في كون العمل الفني ليس شيئاً آخر غير الأشياء التي يتكون منها؟ يرى، تلميذ هايدغر، هانز جورج غادمير أن "العمل الفني يمكن تعريفه بدقة على أساس عدم كونه شيئا قد تم إنتاجه الآن ويمكن إعادة إنتاجه مرارا وتكرارا". إن ما يميز العمل الفني هو الفرادة وعدم القابلية للتكرار. لذلك فالفن إبداع أصيل وفريد من نوعه وليس عملا. إن الفن يتميز بالخصائص التالية حسب غاديمير:
- التجاوز: تجاوز العمليات العملية التي أنشأته.
- التكيف: إنه إبداع
متكيف بذاته.
- أسلوب فهمه: يفرض نفسه باع_تباره تجليا خالصا يفهم في ذاته.
الحكم الجمالي من أين يستمد الشيء الجميل قيمته؟ للإجابة على هذا التساؤل ينبغي العودة إلى الفلسفة الكانطية. يمثل كتاب كانط "نقد الحكم
الجمالي" دعامة قوية في بناء علم الجمال. وفي مستهله يقرر كانط أنه ليس من
الممكن وضع قاعدة بموجبها يستطيع الإنسان أن يتعرف على جمال شيء ما، ولهذا فإن
الحكم على الجمال حكم ذاتي، وهو يتغير من شخص إلى آخر ولهذا فإنه يختلف عن الحكم
المنطقي القائم على التصورات العقلية. ومن هنا فالحكم ا لمتعلق بالذوق لا يمكن
أن يدعي الموضوعية ولا الكلية. ورغم ذلك ، فمن الممكن أن تتصف أحكام الذوق بصفة
الكلية (الكوني) لأن الشروط الذاتية لملكة الحكم واحدة عند كل الناس. لهذا عرف
كانط الجمال بـأنه "قانون
بدون قانون". وفي معرض حديثه عن الفن يقول كانط :"إن الفن ليس تمثيلا
لشيء جميل بقدر ما هو تمثيل جميل لشيء ما".
وقد جادل كانط قائلا: "إن حكم
الجمال أو الذوق ينبغي أن يكون شيئا عاما وصادقا بالضرورة بالنسبة لكل البشر،
لأن الأساس الخاص به لابد أن يكون متطابقا لدى جميع البشر". لكنه أشار أيضا
إلى أن المعرفة هي فقط القابلة للتوصيل، ومن ثم فإن الشيء الوحيد أو الجانب
الوحيد في التجربة الذي يمكن أن نفترض أنه مشترك أو عام بين جميع البشر، هو
الشكل، وليس الإحساسات بالتمثيلات العقلية. بالإضافة إلى ذلك، نظر كانط إلى
"الجميل" على أنه رمز للخير، كما أنه تصور النشاط الجمالي باعتباره
نوعا من اللعب الحر للخيال. وتعد المتعة الخاصة بالجميل والجليل متعة خاصة
بالملكات المعرفية الخاصة بالخيال والحكم، عندما تتحرر من خضوعهما للعقل والفهم،
أي تتحرر من قيود الخطاب المنطقي. إن الحكم التأملي لا يستمد - كما أشار كانط -
من الخارج، لأنه حينئذ سيكون حكما محددا أو معينا أو حتميا أو طبيعيا، إنه ينتمي
أكثر إلى مملكة الذات والوجدان والشعور، واليهما ينتمي كذلك الحكم الجمالي.
والفن الجميل في رأي كانط هو فن
العبقرية، والعبقرية هي موهبة (أو هبة طبيعية) تمنح القاعدة (أو القانون) للفن.
والموهبة ملكة فطرية خاصة بالفنان وتنتمي بذاتها إلى الطبيعة. ومن ثم فإن
العبقرية هي استعداد عقلي فطري تقوم من خلالها الطبيعة بإعطاء القاعدة أو
القانون للفن. ويقول كانط: "إن
الجمال الطبيعي شيء جميل، في حين أن الجمال الفني تصوير جميل لشيء ما".
والذوق في رأيه ليس ملكة خلق أو إبداع، بل هو ملكة حكم فقط، وان ما بلائم الذوق
لا يكون بالضرورة "عملا فنيا"، وإنما قد يكون مجرد أثر صناعي، أو نتاج
نفعي أو عمل آلي ميكانيكي صرف.
ويخلص كانط إلى ضرورة اتحاد الذوق
والعبقرية في العمل الفني، مادام من الضروري أن يتوافر كل من "الحكم
والمخيلة" في الفن. فالفنان العبقري يحتاج إلى ملكات أربع هي: المخيلة
والفهم والروح والذوق.
في مقابل الطرح الكانطي، ينتصب كريستيان دولكمبان للدفاع عن أطروحة مختلفة مفادها أن العمل الفني يستمد قيمته من قدرته على توجيه النفكير الإنساني نحو شيء معين. يقول: " إن الأهمية الحقيقية للعمل الفني لا تقاس بقيمته التجارية، ولا بعدد الأقمصة أو البطائق البريدية التي تشهر، بل تقاس بقدرته على جعلنا نفكر في شيء معين، ما كان بإمكاننا أن ندركه لولا هذا العمل الفني". الـفـن والـواقـع هل يمثل الفن إعادة إنتاج للواقع أم
تجاوزا لهذا الواقع؟
يرى أفلاطون أن الفن استنساخ للواقع ومحاكاة
له. ومن هذا المنطلق فإن قيمته مبتذلة، لأنه ليس إلا تقليدا لعالم هو في حد ذاته
مستنسخ. بمعنى آخر: إذا كانت المحسوسات صورا مزيفة لعالم للمثل، فإن العمل الفني
تقليد لما هو مقلد أصلا. وبما أن الحقيقة السامية والمطلقة لا تتاح إلا بالارتباط
بعالم المثل، فإن العمل الفني يبعد الناس عن الحقيقة. لقد كان أفلاطون يتصور أن ما يحط من قدر الفن، ويقلل من قيمة
العمل الشعري، هو كونه يعتمد المحاكاة، مما يبعده كل البعد عن الحقيقة. يقول
أفلاطون : "فإذا
ما نزعت عن الشعر قالبه الشعري، فلا شك أنك تستطيع أن تراه على حقيقته، عندما
يتحول إلى نثر". لهذا
السبب طرد أفلاطون مكانا للفنانين والشعراء في مدينته. كان أفلاطون يستخدم فكرة المحاكاة كأداة،
غير دقيقة، لنقد الفن وهدم أسسه، من وجهة نظر فلسفية مثالية، تتغنى بالجمال
وبالجميل، ظاهريا، وتستبعده بكيفية نـهائية من الحياة الواقعية للناس، وليس
كمبدأ لتفسير ظاهرة الفن وإظهار طبيعة العمل الشعري والفني .
أما أرسطو، فينطلق في تحليله ودراسته
للظاهرة الشعرية والفنية، من التأكيد على أن الفعالية الشعرية والفنية، لدى
المبدعين عموما، تتعلق أساسا بالمحاكاة، وتختلف الأعمال والمبدعات الفنية
والشعرية، بعد ذلك، تبعا للأنحاء التي تكون بـها المحاكاة، وهي إما ترجع إلى
الوسائل أو الموضوعات أو الأسلوب والشكل الفني. والمحاكاة في استعمال أرسطو، هي
بالإضافة إلى كونـها مبدأ سببيا للشعر والفن، فهي أيضا، وقبل ذلك، مبدأ غريزي في
الإنسان، يرتبط به تهيؤ الإنسان لتقبل المعارف الأولية، كما يرتبط به الشعور
باللذة الناجمة عن حصول المعرفة والتعلم لدى الإنسان. إن مفهوم أرسطو للمحاكاة،
لا يقف عند مجرد كونه أداة خارجية لمقاربة العمل الفني ونقد فعالية الإبداع الشعري
والحكم عليها، انطلاقا مما هو بعيد عنها، كما فعل أفلاطون بالضبط، بل لقد أصبحت
المحاكاة، هنا، مع أرسطو هي جوهر العمل الشعري والفني، الذي يتوقف على فهمها
وتحديدها، فهمنا وإدراكنا للفعالية الخالقة والمبدعة، بكل عناصرها ومكوناتـها.
في المقابل يرى هيغل أن الفن يتجاوز
المحاكاة ويرتفع بالكائنات الطبيعية والحسية إلى المستوى المثالي، ويكسبها طابعا
كليا حين يخلصها من الجوانب العرضية والمؤقتة، فالفن يرد الواقعي إلى المثالية
ويرتفع به إلى الروحانية، والفكرة إذا تشكلت تشكلا دالا على تصورها العقلي تتحول
إلى مثال.
أما حسب رأي "شوبنهاور" فان
كل ما يعرفه الإنسان يكمن داخل وعيه، هذا على الرغم مما قد يفترض من وجود ذات
عارفة، وثوابت خالدة، خلف هذا التدفق للخبرة. فالتحليل البسيط يكشف لنا عن أن
الذات هي لاشيء دون وعي، وأن المادة لاشيء دون أحداث يتلو بعضها بعضا خلال
الزمن، وأن ما يجعل هذين المفهومين (الذات والمادة) يكتسبان الحياة، ويصبحان
مفعمين بالمعنى هو تلك القوة الكونية التي تبث الحياة فيهما، والتي يطلق عليها
"شوبنهور" اسم "الإرادة"،
إنها الشيء في ذاته، إنها ليست الذات القائمة بالإدراك، ولا المادة المدركة،
لكنها الشيء الذي يتجلى كل من الذات والإرادة من خلاله. والجانب الجمالي في رأيه "ظاهرة من ظواهر الذهن"
تعتمد على الخصائص المميزة للفرد الذي يدركها، لكنها ظاهرة تكون لافتة في
اكتمالها وتوافقها، والفن محرر أو مطهر للعقل، فهو يسمو بنا إلى لحظة تعلو على
قيود الرغبة، وتتجاوز حدود الإشباع. والرغبة والإشباع من الشروط الملازمة
والمألوفة في الحياة العادية. فمن خلال الفن تجد الإرادة الإنسانية، التي لا
تهدأ ولا يقر لها قرار، حالة مؤقتة من الهدوء. يشير "شوبنهور" كذلك
إلى أن المتلقي ينبغي له أن يصغي أولا إلى الحكمة العميقة التي تبوح له بها
الأعمال الفنية، إنه ينبغي أن يستمع إلى حديث العمل الفني إليه، قبل أن يتحدث هو
إليه. فالاستمتاع الجمالي إذن حالة مشاركة، أو تعاون بين العمل الفني والمتلقي.
هذا هو الشرط الأساسي لحدوث الأثر الجمالي، ومن ثم هو أيضا القانون الجوهري فيما
يتعلق بالاستمتاع بكل الفنون الجميلة. أفضل ما في الفنون. تلك الجوانب فائقة
الروحانية فيها، وبحيث إنها تمنح نفسها للحواس على نحو مباشر، إنها يجب أن تولد
أو تحدث في خيال المتلقي،