هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الـبــواقــــون

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
The-Mor
الـبــواقــــون 38596410
الـبــواقــــون Ua537611
The-Mor


الجنس : ذكر
العمر : 34
تاريخ التسجيل : 17/12/2009
عدد المساهمات : 168
نقاط : 350
البلد : الـبــواقــــون 710
المدينة المدينة : أكادير CPH
الهواية : السفر
المزاج : الـبــواقــــون Pi-ca-24
الأوسمة الإدارة

الـبــواقــــون Empty
مُساهمةموضوع: الـبــواقــــون   الـبــواقــــون I_icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 29, 2009 7:02 pm


لقد نفذ كل شيء من هذا الرأس الأجوف.. رأسي..
هذه الكرة المحشوة بالخراء.. (تـف ).


أني أحس بأنه أصبح وعاءا يحتوي شيئا عفنا..
أوف، الرائحة النتنة تخنقني وتسير مثل دبيب سحال وعظايا وقنافذ صغيرة في
مساماتي.


أنا أحتاج لأن أنام شهورا.. سنينا طويلة،
أطول من أحزاني العمياء لعلي أستطيع أن أنهض بعدها خاليا من أرهاقاتي، أريد أن
أسكر، أريد بحورا من الخمرة الساخنة تذبح على شطآنها آلاف العاريات وآلاف
القوادين ((القوادون، لن يمنعوني، سأفر بجلدي قبل أن يسلخوه، سأهرب قبل أن أرى
جسدي متناثرا تحت ثياب الصراصير التي ترتدي ثياب الآدميين)).


منذ أن سافر مهند إلى مدن الضوء البعيدة وأنا
أدور حول نفسي مثل قنفذ زنخ الرائحة ولا أفعل شيئا سوى الجلوس لساعات طويلة في
هذا المقهى الكئيب، أنا أقسم بأن رائحتك ما زالت تدور في هذا المقهى وتتوزع
فتافيتا من حزن وعربدة على الأقداح والمناضد التي تركت أقداح الشاي عليها
دوائرها المقرفة اللزجة وتنتشر مزقا صغيرة على الأوجه المعدومة الملامح وعلى
الأرائك التي تحمل كل أحزان المدينة وحكايات عشاقها، واقسم إن أصابع يديك
النحيلة ما زالت مرسومة على الأقداح والجدران وجذوع الأشجار.


ما الذي أفعله وقد صرت وحيدا، قصبة وحيدة تعاند
الشتاء.. أن كل ما أفعله لا يتجاوز التوزع بين ثلاثة أشياء، المقهى والمذياع،
والمدرسة. لقد تحولت إلى صنم تتوزعه ثرثرة المذياع وضجيج المقهى وعراك التلاميذ
الصغير. في هذا الصباح وقع المدير على دفتر خطتي التدريسية وهو يرفع حاجبيه مثل
عاهرة عجوز.


- هل ستدرسهم النشيد الوطني

- .............

- هذا أفضل، يبدو إنهم نسوه

كم أحببت أن أركل هذا المدير الذي تكلس على
كرسيه مثل كومة من الروث المتيبس، وجهه يشبه حقيبة نسائية بالية، وصوته يوحي
بعواصف من الجبن، ودناءته تختبئ وراء زجاج نظارته التي تخفي عينين صقيلتين
صلفتين مثل عيون المومسات.


كان مهتما بأن يقرأ التلاميذ صباحا كل
الأناشيد الحماسية بينما لم يكن مهتما بتلاميذه الذين أخذوا يدخنون ويسرقون
أشياء صغيرة تكبر شيئا فشيئا حتى يتحولون إلى لصوص محترفين، ولم يكن لديه عمل
سوى تلميع شاربه ونظارته وتلك اللافتة البذيئة التي وضعها أمامه وتقول (العدل
أساس الملك) يكاد الغضب ينفجر من أصابعي ليسيح ناقما كي يغطي وجه العالم، أترنح
في مشيتي مثل قطرة زئبق في يد صائغ مبتدئ ولأول مرة- صدقني يا مهند- أحمل معي
عصى طويلة تشبه كل العصي التي تحرث الجلد بحثا عن تصفيق معدني للإله الأخرس..


بعد غرفة المعلمين يمتد رواق طويل يضم غرفا
متشابهة مغلقة الأبواب تحمل حروفا وأرقاما تحصر الأطفال مثل زرائب الماشية، في
هذا الرواق لا تسمع سوى صرخات المعلمات التي تشبه أصوات سناجب سمينة توشك على
الولادة، ونعيب المعلمين الذي تحسه مشحونا بعواصف مسائية من خدر ونواح، وتستطيع
أن تميز من أصواتهم كميات الخمر التي أتلفت حبالهم الصوتية حتى صاروا يفحون مثل
طبول مشقوقة. لقد شربوا أطنانا من الكحول علهم ينسون وجودهم ووطنهم الذي ذبحوه
في كؤوس الشراب..


السادس أ ، السادس ب، أبوابها مغلقة وصفير
السناجب يعلو ليوحي بطوفان من البصاق ودم الطمث ورائحة الدورة الشهرية.


الخامس أ، الخامس ب أبوابها مغلقة وصوت الوطن
المخنوق في زجاجات النبيذ يستغيث بكل الذين يمرون في ذلك الرواق الذي كتبت على
جدرانه تحيي الوطن الواحد والقومية والوحدة و.و.و.و. (تف)


أحس أن هذه الكتابات قد خطت على حيطان مواخير
قذرة يتمدد فيها قوّادون سمان يمسدون شوارب طويلة مثل ذيول الخنازير المخصية
وتنطرح فيها عاهرات كالأبقار يرددن أناشيد الحرب وهن يهلسن شعر عاناتهن بتلذذ
((كيف استطعت أن تخرج من كوابيسك أيها المجنون، كيف تمكنت من الفرار من المسخ
الذي يشارك كل منا في جسده. أنا أحس برجل جبان ينام تحت جلدي ويرافقني مثل حارسي
الشخصي أو شيطاني الشرير ويمشي معي خطوة بخطوة وأنا أجر قدمي على الرصيف المؤدي
إلى تلك الزريبة -مدرسة الوحدة الكبرى الابتدائية-


هل تعلمني كيف أتخلص من هذا الذليل الذي
يسكنني ويسير معي، وربما سيمشي وراء جنازتي حينما أموت خوفا)).


الأبواب مغلقة. وصوت الطباشير يحشرج على
السبورة، أما النقاط فيأتي صوت رسمها على الحروف مثل طلقات الرحمة لحصان مريض
يشبه كل الذاهلين في هذا المنفى الذي أسمه الوطن.


الأبواب مغلقة، والمعلمون يصرون على إغلاقها
لئلا يسمع أحد بذاءاتهم وهذياناتهم المرة. فأخذت أقرع الأبواب.. افتحوا
الأبواب.. دعوا الشمس تدخل لتغسل قلوبكم.. هل نحن في سجن؟ دعوا هذه الفئران
الصغيرة تشم الهواء..


لقد اعتادوا ذلك مني، فكثيرا ما كانوا
يتساهلون معي ويسكتون عن أفعالي العابثة.


السناجب السمينة ستقول:- مسكين لقد أثر السجن
والجوع على عقله، أما المعربدون فيهزون رؤوسهم ويقولون :- ربما كان ثملا، أنه
يؤذي نفسه في الشرب.


كلهم فتحوا الأبواب وامتنعوا عن التدريس
ووقفوا بأبواب صفوفهم ينظرون إلي فأحسست أمام نظراتهم بالوحشة، وبالعري، لكنني
قرأت امتنانا خجلا في عيون الصغار.


(الرابع أ) الباب كان مغلقا أيضا ، أولئك
التلاميذ كانوا ينتظروني، أنا أعرف أنهم كانوا يملأون المدرسة صراخا وعبثا
طفوليا لا يعرف التدجين، لكنهم تحولوا إلى تماثيل حجرية بمجرد أن فتح الباب..
الشياطين الصغار، كم تمنيت أن أخدعهم مرة واحدة. كل الأطفال أذكياء، لكنهم بمجرد
أن يكبروا قليلا حتى تسيح أدمغتهم ويتحولون إلى دمى قماشية غبية.


قيام .. صرخ التلميذ ذو الرأس الكبير فنهض
جميع الطلبة من أماكنهم


- جلوس أيها الزبالة

توجهت إلى السبورة كأني أمشي على جثتي وكتبت
على السبورة تأريخا مهزوما احتل الزاوية العليا اليسرى بدا ذلك التاريخ هزيلا
وشاحبا مثل كل التواريخ التي طفرت عليها هزائمنا.


((إن كل التواريخ حزينة، وأكثرها حزنا هو
تاريخ ميلادي وبوابة هذا الشقاء هذا التاريخ الأبكم هو بوابة الغجر الرمادية
التي فتحت مصراعيها لتدخلني مغارات من تعاويذ وطلاسم نجسة، وتاريخ يجر تاريخ حتى
صارت حياتنا لا تمثل أكثر من رقم يتغير بين فوارز التقويم))


في وسط السبورة كتبت :- الموضوع / النشيد
الوطني


ثم تهت في عالم العيون الصغيرة التي تأتلق
كالخرز في جو الصف. يا لهؤلاء الأطفال. إنهم طبعة سيئة من آباء يركضون كالحمير
طوال النهار ليعودوا إلى أسرتهم متعبين قذرين لينجبوا أكثر قذارة. الصمت مطبق
على جو هذه الغرفة الرطبة، والأطفال يغطون في غيبوبة مقيتة، صامتون مثل الدمى
الشمعية لا يتحرك منهم سوى أجفانهم التي ترف بسرعة ما الذي سيتعلمونه؟


أنا متأكد من أنهم سيزيدون من أعداء الحثالة
فقط، أنهم رقم مضاف إلى مسحوقي هذه المدينة التي تفوح منها رائحة العهر. أنا
متأكد من ذلك فقد أثبتت التجربة هذا الشيء، بالنسبة لي على الأقل ففي السنوات
الماضية توقعت لأحدهم أن يصبح مهندسا فصار لصا.. كان يخطط الأشياء بصورة مذهلة.
وواحد توقعت أن يكون فنانا فصار مزورا. لقد كان دقيقا في عمله لذلك نجح الآن في
عمله فقد زيف كل شيء. وواحدة توقعت أن تكون معلمة فأصبحت راقصة. أما الذين توقعت
لهم أن يكونوا ضباطا وجنودا من التلاميذ الذين كانوا ينشدون الأناشيد الحماسية
عن الوطن الواحد الذي يمتد من (عدن لتطوان) فقد قتلوا في عراكات الشوارع الخلفية
الموبوءة بالسفلس والجنس وطوفان الحيامن المنحوسة. (تف عليهم جميعا)


لقد تكلمت كثيرا عن الزهور والألوان والحرية
. رسمت لهم علم الوحدة على كل مساحة السبورة فلم يستطع أن أرسمه، واحد منهم قال
أنه صعب، وقال آخر أن كراستي لا تتحمله فهو كبير.


رسمت لهم الفاكهة الناضجة فرسموا فاكهة صخرية
زرقاء، رسمت لهم حصانا فرسموا وراءه عربة، رسمت لهم سمكة فرسموا صيادا في
دفاترهم. رسمت لهم دغدغة النسيم للثياب المنشورة على حبال الغسيل فرسموا أعاصير
تأكل كل شيء رسمت النخل والأشجار والطبيعة فرسموها بألوان حارة ملتهبة أحمر..
أحمر .. أحمر .. وفي الموضوع الاختياري اكتظت أوراقهم بدخان الطائرات وصلصلة
الرصاص وعويل المدافع وقتلوا الحلم بين بدانة الدبابات ورائحة البارود.. أولاد
الكلب، كانوا يرسمون الرصاص كخط أحمر متقطع يصل الأرض بالسماء.


أما أناشيدهم فكانت تسحبني على آلاف المسامير
والشظايا المسننة.. النار.. الموت.. السلاح، الوطن، خريطة سياحية، ومذيعة، وشاعر
مأجور.. والقضية كوفية تلف على العنق والعدل زجاجة ويسكي وعلبة سجائر مستوردة.


واحد فقط كان يرسم حماما وصبايا وديوكا لامعة
الريش.. مهند..


((أيها الشاعر المرهف الحس يا تلميذي الصغير.
لقد عجزت عن فهمك رغم صغر سنك كنت نبياً خرافياً يسافر مع الريح ينشر رائحة
الخزامى ويطش الزنابق في هذا العالم الفاسد المحتويات.. لا أعرف كيف كبرت بهذه
السرعة، ولا كيف رحلت بهذه السرعة، ما زلت أتذكر طفولتك، مكانك الذي تجلس فيه،
دفاترك، ثيابك، تلك النبرة اللذيذة التي تنطق بها (قيام) فينصاع لأمرك الملكي كل
التلاميذ.. كيف أصبحت صديقي. هل كان علي أن أنتظر كل هذه السنين لأحصل على صديق
صغير مثلك. ثلاثون عاما كئيبة قضيتها بدون صديق حتى ولدت أنت.


كانت عيونك تشي بأنك ستكون عظيما، لكنني كنت
محتارا في التوقع وكان التوقع يذلني أمامك.. هل ستكون ضابطا؟.. لا أنهم
سيقتلونك، لأن نقائك لن يتحمل سحر عرافات الجنود ولن تقدر على مجابهة ما يحملون
من رقى وتعاويذ وخرز سليماني.. هل ستكون معلما؟. لا، أنا أخشى على طيبتك من صلف
أبناء الحمالين. هل ستكون ممثلا؟ ربما ستناسبك هذه المهنة لكي أعلم أنك سترفض ذلك
فكل أحزاننا بدأت بالتمثيل وستنتهي بالتمثيل وسنموت بعد أن ننهي آخر دور لنا.
الكل هنا يمثل، الساسة يمثلون علينا الحكمة ونحن نمثل عليهم الإخلاص.


أنا أتمنى أن يجتاح الطاعون العالم فينزع كل
الأقنعة ويحرق ستائر هذا المسرح الذي يضمنا من المحيط إلى الخليج لتظهر من
ورائها الحقيقة عارية وبلا مكياج.


ربما ستكون إلها نحاسياً يوضع في باب المدينة
ليدفع عنها الأرواح الشريرة..


حين بدأت تكبر قليلا وأخذ شاربك بالظهور أخذت
تذهلني وتجعلني أشعر بالعجز وبقلة الفهم رغم ما بيننا من سنين طويلة كست بالبياض
شعري وأربكت خطواتي))


انهرس قالب الطباشير تحت يدي وأنا أرسم
النقطة على حرف النون في كلمة وطن فشعرت بالاشمئزاز فالكلمات تفقد قيمتها هنا،
وشعرت وأنا أكتب كلمات ذلك النشيد أني كمن يغط إصابعه بالغائط ويكتب أسمه وأسم
أبيه على حيطان بؤسه.


أصبح السجن أكبر مما أطيق وأضيق مما أحتمل،
إن غربتي في داخلي وأنا مسجون في هذا الجسد المكسر كل شيء في داخلي يعوي حصرا
وحبسا، أريد أن أخرج من قفص الكريستال هذا، أريد أن أحطم الزجاج وأخرج إلى
الفضاء لأقبل وجه الله، لأجل أي شيء أنا أعيش مثل سمكة للزينة في حوض زجاجي مليء
بالطحالب والحصى السوداء، أريد أن أفر من تابوتي هذا إلى تيارات اللون الذعورة.
كم أشتاق لعينيك يا مهند.


(( ذات مرة دخلوا علي إلى غرفة الصف وقيدوني
أمام الجميع ثم سحبوني مثل كلب وسخ وكنت أبحث عن عينيك الصغيرتين اللتين منحتاني
القوة لسنين طويلة، بحثت فيهما عن أملي المستحيل ونبشت تلك النظرات أريد أن أتيه
معها في عالم البلور والندى، وحين يلمني ليل الزنزانة كنت أخاف وحدتي، وأجبن من
أن أتصور عينيك لئلا يختطف فزعي بهاءهما، أنها مرة واحدة سجنوني بها فصرت أعوي
مثل كلب جريح .. بالفعل قالوا لي :- أعوِ فعويت عوو .. عوووو ..عووو فضحكوا
وقالوا لي أخرج. أتراك رفضت أن تعوي فقتلوك؟))


بدأ التلاميذ ينشدون، أتتني أصواتهم محنطة
وبائسة ولفظة الوطن الكبير تتصاعد بقرف مثل صوت فتح زجاجات الشمبانيا، أو مثل
صفير سناجب تتداخل في جماع عنيف.


البحر مسجون بداخلي، وما أكثر الأشياء
المحبوسة في صدري.. البحر، زرقة السماء، المطر، واحات الغجر البعيدة، أسرار
المعابد الوثنية. الحلم. الحلم يا لهذا الحلم الذي يأكلني ويجعلني أعي أشياء
أخرى مسجونة معي مثل العناكب وديدان الأرض والأباريق النحاسية وطاسات الاستجداء
ما زال نشيد الصغار يعلو.. يعلو


ولأول مرة، لم يخطئ أحد بقراءته فحرموني لذة
أن أضربهم بهذه العصا المخيفة. لأول مرة، كان صوتهم مزمجرا مثل طبول قبيلة وثنية
تؤذن لولادة قمر ترابي اللون.. لأول مرة، كان صوتهم عاليا وقوياً، هذه المرة
التي تزامنت مع خسارتي الفادحة..


أجل أنشدوا بصوت أعلى يا أولاد الكلاب.
اصرخوا لعلكم تعيدون لي مهندا. (العن أبوكم). اصرخوا لعلكم تقنعوني أن هذا هو
الوطن الحقيقة، تف عليكم.


((حين رأيتك تكبر بسرعة مثل نبات استوائي
غريب، فطنت إلى أنك سوف تكون عظيما. وأعظم مما توقعت لك أمك التي عجزت عن
الإتيان بمثلك رغم زيارتها لكل الأولياء، ورغم كل أدعيتها السرية..


إني أشعر بالحرج أمامك أيها التلميذ الصغير
الذي حيرني كثيرا والذي جعلني أشعر بعجزي أمامه، كنت أكتفي بتأملك وأنت تكبر
وتفهم. ومن شباك غرفة المعلمين المطلة على الساحة كنت أراقبك وأنت تركض تارة
وتقع أخرى، وحين كنت تقع وتجرح ساقك لم أكن أنهض لمساعدتك لأني أعرف أنك أكبر من
أن يساعدك خائف مثلي. وعندما تبكي كنت أغمض عيني لئلا أرى انكسارك وكنت أراقبك
وأنت تتسلق شجرة السدر لتقطف النبق اللذيذ لكل الأولاد الخائفين ثم تذهب لتغسل
شعرك تحت صنبور المياه وتعود لرفاقك مبللا والماء يقطر من شعرك الذي صار مثل
ثعابين مقدسة توحد ما بين الحياة والموت. كنت تصر أيها الطفل الصغير على أن
تدهشني دائما. وتتلذذ بأن ترى الكلمات المحبوسة في حنجرتي وهي تصدر غمغمة مثل
صوت حنفية توقف سريان الماء في عروقها.


مرة أتيتني بقصائد صغيرة فأعجبت بها قبل أن
أقرأ نبوءاتك الصيفية العائمة على بحر القرنفل. ومرة رأيت دفاترك فأعجبني خطك،
وقلت لي عندها أنك ستصبح خطاطا..


ولم تعجبني هذه الفكرة لأني خفت أن تصيبك
لعنة الحروف، وكرهت أن تكون حروفك مزلقة أطفال يتزحلق عليها الفرحون في
المناسبات.. لكني ألجمت فضولي وسكت أمام رغباتك الحبيبة. وكان مقدار سعادتي
هائلا حينما دخلت علي وبيدك ورقة وقلت لي ساعدني على كتابة رسالة غرامية بلا خجل
وبلا حياء. تصورت وقتها أن أمطارا من الكحل والزهور والفستق المقشور غسلت كل
أحزاني.. ومرة سمعت صوتك الغجري وأنت تصرخ في تظاهرة للطلبة. بهت، تلجلج لساني.
كيف لم أفكر بأنك ستكون بهذه العظمة. كان صوتك وسط الجموع مثل صوت زلزلة وأعاصير
تنفجر من بئر ينام فيه أنبياء وكهان وعفاريت ثملة))


أنشدوا أيها الحثالة، دعوني أسمع استغاثة هذا
الوطن الأجرب الذي خنقته سفالة الطبول وبذاءة المراسيم العسكرية، دعوني أرى شلله
وهو يتطاير ذرات رمل بين حروفه الأناشيد الحماسية. اصرخوا واتركوني لوحدي أشم
عبير هزيمتكم التي تراوح بين نفس ونفس. أنا لست شامتا بكم ولكني حزين بما فيه
الكفاية لأدعوكم لأن تمشوا في جنازة هذا الوطن المزدوج الشخصية الذي يشتهي نفسه
ثم يبسمل ملايين المرات لينسى أنه عنين.


أنشدوا أيها الجرذان الصغيرة على مذبح وطنكم
فأنا سأذبحكم جميعا وراءه ثم أبول عليكم وأرقص رقصة ملك مخلوع من عرشه..


انتهى نشيد الصغار وسمعت الكلمات الأخيرة مثل
صوت سحل جثة القتيل على أرضية زنزانته فأمرتهم بإعادته لأتشفى بهم.


((أي رعب يعادل ذلك الرعب الذي اجتاحني حينما
أخذوك يا مهند، كان الليل حزينا وهادئا وببغاء المذياع يعلن أن يوم الغد هو يوم
إحدى مناسباتنا القومية، طرق الباب ودخلوا، اقتادوك أضحية للعيد المتوحش. وقالوا
أنك كنت تهتف في التظاهرات وعندما اعترضت ضربوني حتى فقدت الوعي، وحين فتحت
عيوني سمعت أصوات المدفعية وهي تمزق جوف الليل مستبشرة بالعيد عبر أطلاقاتها
الكئيبة الإحدى والعشرون. إحدى وعشرون ضريحا مفتوحا للعراء، أم تراها طرقات مهند
على باب الله لتنفتح قيامات من أضاح وأنهار عسل وخمر. وبعد يومين وبعد أن كنس
الناس بقايا الاحتفال عن وجوههم وبعد أن بلع ببغاء المذياع ريقه وتقيأت مدفعية
المناسبات كآبتها بعد أن ثملت في حانات السراي. وبعد هدم خيمة سيرك الألفاظ، طرق
الباب بخجل أحس به الخشب وحين فتحت الباب وجدت (مهند) ببهائه وجموحه جثة
هامدة!))


أولاد الكلاب.. سأقتلهم جميعا.. أولاد
الزنا.. قتلوه..


أي نوبة من الهستيريا تلك التي اجتاحتني وأي
حريق كاوٍ لعصب العيون...لِمَ لم أمت أنا؟


لقد عذبوني كثيرا وضربوني وأحرقوا جلدي.
لماذا بقيت حيا لهذا اليوم؟


لقد حفروا أسماءهم على جلدي بالسجائر ولم أمت
.. لقد أحرقوا كلماتي بالحامض وهي ما زالت في حنجرتي ولم أمت.. لقد تركوني تسعة
أيام أتدلى من السقف وقد ربطوا في عضوي التناسلي كرسيا كبيرا يتدلى هو الآخر،
تسعة أيام ولم أمت..


يا لي من جحش كبير..

لم يتحمل جسده العطري رائحة نتانتهم. لم
تتحمله أعضاءه المصنوعة من الشكولاته ضرباتهم فمات كفراشة تسحقها قدم جزار..
فيما بعد قالوا لي أنه كان يكتب على الجدران شعارات تطالب بالحرية وتطالب بالخبز
بدل المواعظ ويشارك في تظاهرات رمي الحجارة..


إن وحشة الكريستال ترقص على جبيني لتعمدني
صرصارا معدنيا بأجنحة من خشب، وأنا أعاني الوحدة بعد ضياع كل شيء وأعاني الحصر
والكآبة المرة المذاق.


دقّ الجرس معلنا انتهاء حصة النشيد فاكتشفت
إنني كنت أصرخ وكل الأولاد صامتون صمت الحجر وقد تجمع في الباب أولئك المعلمون
الثملون والمعلمات اللائي يشبهن السناجب ومعهم ذلك المدير المصفق وقد سقط جزء من
طلاء شاربه.


خرجت كالثور الهائج وصرخت بهم:-

سأقتلهم .. لن أعوي مرة أخرى

لقد قتلوا (مهند) لقد قتلوا ولدي.. لن
أرحمهم.. قتلوا ولدي..ََ



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الـبــواقــــون
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: المنتديات الأدبية :: منتدى القصص القصيرة-
انتقل الى: